فيلم «عصيان» للجيلاني السعدي في قاعة الطاهر شريعة : أنقذوا تونس قبل أن يحملها طوفان الفوضى والانقسام والعنف

Insurrection de Jilani Saadi © DR.

  بقلم مفيدة خليل – المغرب
05/02/2022

السينما استقراء للواقع ومحاولة تفكيكه بتقنيات مختلفة عبر اداء الممثلين لشخصيات مركبة ومن خلال طريقة تناول الكاميرا للأشياء والتصوير
من زوايا مختلفة، تونس بين الموجود والمنشود، تونس بين قتامة الواقع واحلام صغيرة متفرقة يريد البعض تحقيقها، تونس بين البشاعة السياسية والقبح المجتمعي والتفقير الاقتصادي وبين بعض الألوان الجميلة الموجودة هكذا هي تونس في فيلم «عصيان» للمخرج الجيلاني السعدي.ـ
«عصيان» من تمثيل امينة بديري ومحمد حسين قريع ورمزي سليم وعبد العزيز بلقايد حسين ورياض حمدي وناجي لقنواتي واسامة غلام و الفيلم يشرّح المجتمع التونسي وعلاقة المواطن بالدولة والاحتجاجات الكثيرة وتاثيرها على المواطن والنظام، فيلم بمثابة الدراسة السوسيولوجية والتقنية للكائن «التونسي» مدته 105دقيقة وصور في العام 2020 وحاصل على التانيت البرنزي في الدورة الاخيرة لايام قرطاج السينمائية.ـ


رحلة نحو المجهول تكشف عن قبح العلاقات المجتمعية


ترتفع أصوات إطلاق النار وصرخات المحتجين، تكاد أصوات الفر والكرّ تتجسد على الشاشة من شدة قوتها، فأحداث الفيلم تدور في ليلة شهدت الكثير من الاحتجاجات، أول مشهد شخصان يحادثان شيخا ويسألانه عن مكان الأموال «امي وين خبات الفلوس» بعد ايجادها يتركانه على قارعة الطريق الوطنية في انتظار مرور احدهم لنقله الى مكان امن، يرفع الشيخ عينيه الى السماء حيث تتشكل سحب كثيفة ليبر منها ضوء ساطع يحوّل الشيخ من مكانه ذاك الى مكان اخر.ـ
المشهد الثاني امراة جميلة (امينة بديري) تتخاصم مع زوجها ليلة عيد ميلادها فيطردها خارج المنزل، تخرج باحثة عن مكان امن ووسط خوفها من المحتجين واصوات اطلاق النار يحملها ذاك الضوء الى مكان اخر وتختفي من مكانها.ـ
المشهد الثالث لمسمار (رمزي سليم) ملاكم يحلم ان يكون البطل في الملاكمة، يتعرض لهزيمة بشعة في احدى المرات، وبعد الهزيمة يضربه احدهم بسكين ويطاردونه بالكلاب يختبئ تحت الشجيرات قبل ان يحمله الضوء من السماء الى مكان مجهول.ـ
رابع الشخصيات «ولد جنينة» (حسين قريع) رجل لا وظيفة له، يريد فقط رؤية ابنته وزوجته تمنعه، يتسلح بالشجاعة والكلام المعسول ويذهب اليها يطلب رؤية ابنته، تستنجد الزوجة بالنساء فيجردنه من ملابسه ويلبسنه «جبة نسائية» وبعدها يتعرض للمطاردة فيرفعه الضوء هو الاخر الى مكان مجهول.ـ
ثم تجتمع الشخصيات الاربعة في مكان واحد، شخصيات لا تعرف بعضها مطلقا وكان المخرج يضع الجمهور امام ثقافة الاختلاف وقبول الاخر دون بحث عن اصله واسمه وهويته، يجتمعون اربعتهم ويقررون العودة الى تونس، وكلما تقدموا خطوات تظهر تونس موشاة بالالوان ونظيفة، تونس المنشودة المدينة الفاضلة التي تريدها الشخصيات، تونس الخالية من مشاكل البطالة و التعنيف الزوجي والتجويع ورمي الابناء للاباء، تونس الصحة و الاحترام والثقافة، ترتفع تونس تدريجيا كلما تقدموا بضع خطوات وفي طريقهم تعيش الشخصيات مغامرات مختلفة هي تجسيد لعلاقة المواطن بوطنه.ـ
بالاضافة الى الشخصيات الاربع هناك شخصيتا عوني الامن (رياض حمدي وناجي القنواتي) يجسدان معاناة عون الامن واضطرابه بين فكطرة القوة وامتلاك السلطة والخوف من استعمال هذه القوة امام مجتمع لا يخاف وفي الوقت ذاته الصراع الداخلي بين ما قبل الثورة وبعدها، صراع نفسي يبدع كلاهما في تجسيده من خلال نقاشات قصيرة لكنها موغلة في السوداوية والنقد.ـ

محاولة البحث عن تونس الأفضل تبدأ بتغيير الذات

«عصيان» هو اسم الفيلم، وفي الفيلم تجسد الشخصيات المعنى اللغوي لكلمة عصيان، فهم يعصون الواقع المرير ويريدون تغييره، يعصون المنظومة القيمية المتوارثة، يعصون فكرة الدولة، ويريدون عصيان السياسيين وخطاباتهم الجوفاء، تتبع الكاميرا الشخصيات اثناء عودتها الى «المدينة الفاضلة» المبهرة الوانا، وفي الطريق يبوح كل بحكايته ويقررون تشكيل عصابة صغيرة لافتتاك حقوقهم وانجاز ثروتهم الصغيرة.ـ
يتسلحون بالحديد أولا، يضرب «مسمار» غريمه بائع «الخمر خلسة» ثانيا ويسرقونه، ويغسلون الشيخ من اوساخه، ثم يفتكون هواتف وأموال بعض المسافرين في سيارة اجرة وفي النهاية يلجئون الى حلّ مختلف هو «الاعتصام» لتكشف الكاميرا ان الاعتصامات الكثيرة بعضها غير مشروع، فكم من شاب احرق العجلات المطاطية فقط للمتعة دون هدف واضح، فالاعتصامات بعد الثورة هي الأخرى أصبحت سوق للبيع والشراء والربح المادي أيضا، توغل الكاميرا في تقديم المواقف الساخرة والموجعة في الوقت ذاته، فالاعتصام ينجز في مفترق «الفلوجة» المعروف بخطورته، لكنهم يستقطبون الشباب بالخمرة «يبدو ان الشرطة لن تاتي، لكن الخمر موجودة، نكمل الشرب ثم نعود» والغناء والرقص والفرجة، اعتصام لأجل «الصحة» ووسط الهتافات الكثيرة للمحتجين يخرج صوت احد السياسيين متحدثا عن دولة الحريات وحقوق الانسان.ـ
سخرية موغلة في الوجع، مع الكاميرا يكتشف المتفرج قبحه في معاملة الآخر، فالدولة تتخلى عن أبنائها عبر مشهد ترك أعوان الأمن للشيخ مرميا في ليلة باردة على قارعة الطريق، الدولة أيضا ضعيفة من خلال مشهد محاولة العون حرق نفسه في الاعتصام، الدولة أيضا تضحي بأبنائها وتهتم فقط بأصحاب رأس المال «حين نسرق الزواولة لن يلتفت الينا احد، لكن لو حاولنا سرقة الأغنياء سنمسك بالوقت» كما تقول الشخصية.ـ
علاقات متشعبة، تنقلها كاميرا الجيلاني السعدي، مراوحة بين واقعية الصورة والفانتازيا، بين الواقعي والخيالي يدفع المخرج جمهوره للانتباه الى التفاصيل يشركه في عملية تشريح للمجتمع التونسي، المجتمع الذي يرى في المرأة فقط وعاء للجنس، المجتمع الذي يقيم الإنسان لأمواله وما يكسبه، المجتمع الذي يقبل تعنيف الزوج لزوجته لكنه يرفض خروجها ليلا بحثا عن مكان آمن، المجتمع الذي يقبل بالسرقة والترهيب الذي تمارسه الدولة والمجموعة وفي الوقت ذاته يرفض مشهد حب واحد، في النص وامام الكاميرا تبدع الشخصيات في تقديم شخصياتها المتفرعة عن التونسي، شخصيات هي جزء من منظومة مريضة يجب معالجتها.ـ
السينما فرصة لاكتشف العيوب وفهمها أكثر، من خلال الفانتازيا تكشف الكاميرا أحلام التونسيين بالمدينة الفاضلة المدينة التي يصعب الوصول إليها قبل إصلاح الذات وإصلاح المنظومة المجتمعية والسياسية والأخلاقية، كلما كذب السياسيين بعدت صورة المدينة، كلما حدث خلاف بين الشخصيات سطع ذاك الضوء كأنه إنذار لمراجعة الذات، في «عصيان» تتماهى الشخصيات مع القضايا المطروحة وتحركهم الموسيقى كأنها الصوت الداخلي للإنسان او ضميره الحيّ دائما، الفيلم يشبه المرآة توضع أمام التونسي ليرى قبحه الاخلاقي وسوء فهمه لكلمة مواطن.ـ
نحلم جميعا بتونس العدالة والحرية والكرامة، نحلم بوطن أجمل وأنظف؟ لكن ما الذي قدمناه لهذا الوطن ليصبح أجمل؟ حسب الفيلم قدم التونسيين الكثير من البشاعة، سيطرة عقلية الغابة وانتصار القوي على الضعيف، عنف وتعنيف، ظلم من الدولة لمواطنيها وهرسلة دائمة، اعتصامات واحتجاجات لا مطالب لها غير الحرق والتكسير، انعدام للانسانية وسعي نحو الفوضى والدمار، لذلك لن تصل الشخصيات الى «تونس» المدينة الجميلة التي يرونها، اذ سيحدث الطوفان ويغرق معه الزيف والبشاعة والانانية والسرقة وانعدام الرحمة و قتامة المجتمع والسياسة.ـ
الطوفان كأنه إنذار للمراجعة وإعادة تقييم الذات والبحث في كيفية إصلاح المواطن ومنه إصلاح الدولة قبل تغرق هي الأخرى بطوفان الانقسامات والخلافات والغلاء فالسينما عين الواقع وصوته حسب كاميرا الجيلاني السعدي الفنان الباحث دوما عن الحقيقة وتقديمها بتقنيات سينمائية مختلفة تضع المتفرج أمام العديد من الأسئلة وتجبره على تغيير طريقة تفكيره في علاقته بالآخر ووطنه.ـ

المصدر (https://ar.lemaghreb.tn)ـ


Soyez le premier à commenter

Poster un Commentaire